الجذور الاستعمارية لعنف الشرطة الفرنسية

كثُر الجدال في فرنسا حول دور الشرطة وعنفها، لكن غالبًا ما يتم تغييب الجذور التاريخية لعنف الدولة، وثِقل “الدراية الفنية” التي اكتُسبت خلال حرب تحرير الجزائر، والتي لا يزال أثرها ملموسا إلى اليوم.

متظاهرون جزائريون ألقي القبض عليهم في ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بباريس.
UPI/AFP

في الغرب، وفي مرحلة أولى، كانت الشرطة أداة واسعة للقبض على الأجساد التي تُعتبر غير طبيعية (كاليهود، و“السحرة”، والمثليّين جنسياً، والمومسات، و“المجانين” و“المجنونات”، والبائسين). ثم استُعملت للسيطرة على المجموعات غير المنضبطة وقمع الثورات الاجتماعية، والتي تفاقمت مع تطوّر المدينة البرجوازية الكبيرة. لكن وكما كتب المؤرخ إيمانويل بلانشارد، يمكن أيضًا اعتبار مؤسسة الشرطة “مؤسسة استعمارية بالأساس”. ذلك أن جذورها تعود إلى زمن العبودية والعمل في المزارع، ومن خلال انتشار الميليشيات التي تطارد العبيد الهاربين. وطوال فترة الاستعمار، شكّل النظام العسكري-الأمني لقمع الثورات والمراقبة اليومية للأجساد المستعمَرة مرحلة أساسيّة.

أثّرت الحروب التي شنتها الدول الغربية ضد السكان المدنيين في بلدان الجنوب على تحوّل قوات الشرطة بشكل منتظم وعميق. فمن خلال الحروب الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في آسيا وإفريقيا، وحروب الهولنديين في إندونيسيا أو الألمان في جنوب غرب إفريقيا، تبيّنت تقنيات عسكرية صارت “كلاسيكية”، سيما من خلال الممارسات العقابية التي تستهدف المدنيين، كالمطاردة والاعتقال، ونهب الممتلكات والأراضي، والإكراه والتشويه والإذلال والقتل. وقد شكّلت هذه الطريقة في ممارسة السلطة مرحلة مهمّة في تاريخ تطوّر الشرطة.

استمرارية كبار المسئولين

بفضل تداول كبار مسؤولي الدولة في إطار مختلف الوضعيات الإمبريالية الداخلية والخارجية، انتقلت المعرفة الاستعمارية. فمثلا، وبعد قيادته حرب العصابات المضادة في إسبانيا1، تم تكليف المارشال بوجو بقمع تمرّد باريس لسنة 1834، ثم بسحق مقاومة الأمير عبد القادر في الجزائر عام 1836. وقد قام الضابط الفرنسي في كتابه “حرب الشوارع والمنازل” بالتنظير لضرورة تكييف حرب العصابات المضادة لقمع تمرّدات العمال في فرنسا.

من جانبه، وبعد أن نظّم لترحيل يهود مدينة بوردو (جنوب غرب فرنسا) في فترة الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، تم تعيين مدير الشرطة موريس بابون مسؤولاً عن المديرية الفرعية الجزائرية بوزارة الداخلية في عام 1945. وتقديرا لإدارته للثورة المسلّحة كمحافظ أعلى خلال حرب تحرير الجزائر، تم تعيينه مديرًا للشرطة في باريس عام 1958 من أجل إخضاع “مخرّبي شمال إفريقيا”، على حدّ وصفه. وقد نقل بابون عقيدة الشرطة، وكذلك عددا من العاملين فيها ومن وأفكارها وممارساتها، من أرض الحرب الاستعمارية إلى العاصمة الفرنسية، حيث أدار مذبحة متظاهري 17 أكتوبر/تشرين الأوّل 1961 على نفس النموذج القمعي الذي سبق واستُعمل ضد مظاهرات ديسمبر/كانون الأول 1960 الشعبية في الجزائر. وظلّ بابون محافظا للشرطة حتى عام 1967.

أما بيار بولوت، فقد تدرّب على “التهدئة” الاستعمارية أوائل خمسينيات القرن الماضي في الهند الصينية، قبل أن يُصبح مديرَ ديوانِ محافظ الجزائر خلال حرب التحرير. هناك، قام بولوت بتصميم دوريّات شرطة “تُركت لحالها” لتطوّق “الأحياء الحساسة”. وبعد المشاركة في أعمال القمع خلال “معركة الجزائر” في عام 1957، تم تعيينه محافظًا على منطقة غوادلوب، حيث استخدم مرة أخرى تقنيات القمع المضاد، وتسبّب في مذابح الانتفاضة الاجتماعية في مايو/أيار 1967. وعندما تم تعيينه سنة 1969 على رأس محافظة جديدة تُدعى “سان سان دوني” (شمال باريس، وهي منطقة تتكوّن من أحياء شعبيّة يقطنها الكثير من المهاجرين، ومن أبنائهم وأحفادهم)، قام بولوت بدمج تجربته الاستعمارية مع تجربة فِرق سابقة كانت مسؤولة عن العمال المهاجرين، وأنشأ شرطة ضواحي تحت عنوان “باك” (BAC)، ويرمز هذا الاسم بالفرنسية إلى فرقة مكافحة الجريمة.

شرطة سياسية خاصة بالمستعمَرين

يمكننا التحدث عن “جينيالوجيا” الاستعمار الداخلي، للحديث عن وجود استمرارية استعمارية في كنف العواصم الإمبريالية. فتاريخ فرقة مكافحة الجريمة (BAC) يُظهر أن المسار المهني لضباط الشرطة الأساسيين هو جزء من هذه الاستمرارية. فعلاً، فإن هذه الفرقة هي وريثة “لواء شمال إفريقيا” (BNA)، الذي كان مسؤولاً عن مراقبة العمال العرب في فرنسا، والسيطرة عليهم وقمعهم خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان التجنيد لهذه الفرقة يتم لا سيما في صفوف الموظفين الاستعماريين في الجزائر. وكان أعضاؤها يطوّقون “أحياء المسلمين” في فرنسا من خلال المداهمات والاعتقالات، مع تطبيق أساليب مستمدة من رقابة المتسولين والمشردين والمومسات.

تم حلّ “لواء شمال إفريقيا” في فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية، بسبب دلالته العنصرية الصريحة. لكن بعد بضع سنوات وتحديداً في عام 1953، أعادت إدارة الشرطة إنشاء وحدة مستوحاة من الواقع الاستعماري تحت اسم “فرقة الاعتداءات والعنف” (BAV)، مع التركيز على “إجرام شمال إفريقيا” المزعوم. وقد أعادت “فرقة الاعتداءات والعنف” تجنيد بعض عناصر “لواء شمال إفريقيا” السابقين، والذين جلبوا معهم هوسهم بـ“الجرم المشهود”. وخلال حرب التحرير الجزائرية، تطورت فرقة الاعتداءات والعنف لتصبح بمثابة الشرطة السياسية الخاصة بالمستعمَرين في فرنسا. يروي روجيه لو تاينتيه، أحد العناصر القدامى لهذه الفرقة: “قاتلنا على طريقتنا، المسدس في يد، وقانون الإجراءات الجنائية في اليد الأخرى. هي نفس الحرب التي كان الجيش يسعى للانتصار فيها في الجزائر”. وقد أوضح عالم الاجتماع عبد المالك صياد كيف شاركت شرطة مدن الصفيح بالعاصمة الفرنسية في استيراد ممارسات الشرطة الفرنسية في الجزائر، حيث كانت قوات مساعدة تُسمّى بالـ“حركي”، ووحدات الشرطة “الصحية والاجتماعية”، ووحدات صدامية، تُدير -تحت مسئولية مدير الشرطة موريس بابون- عمليات رقابة وقمع على نفس منوال “معركة الجزائر”.

مطلع السبعينيات، استطاع أعضاء سابقون لفرقة الاعتداءات والعنف بفضل تجربتهم الالتحاق بوحدات استعمارية داخلية جديدة، وهي “فرق المراقبة الليلية” (BSN)، والتي كانت بمثابة النماذج الأولية لفرقة مكافحة الجريمة التي أنشأها المحافظ بيار بولوت. وقد أُنشُئت هذه الفرق أساسا للقبض على مرتكبي الجرم المشهود في “أحياء المهاجرين”، حيث تنتشر البطالة وتعيش الطبقات الهشّة. تم تصوّر هذه الفرق لتكون “استباقية”، أي قادرة على تهيئة ظروف عملها، وفقًا لمصطلح مشتق من تقنيات الإدارة، وسرعان ما تم التنويه بـ“إنتاجيتها”، وبالتالي بكونها مربحة للغاية وفقًا لما يسمى بـــ“سياسة الأرقام”، الرائجة في المجتمع النيوليبرالي “الجديد”.

“حرب الجزائر لم تنته”

بين الاستمرارية وإعادة الترتيب، تشكّلت تصورات وتقنيات شرطة الأحياء التي ظهرت في فرنسا في السبعينيات والثمانينيات. في نوفمبر/تشرين الثاني 1972، وسط مركز شرطة مدينة فرساي قرب باريس، أطلق الشرطي روبرت ماركيه النار على سائق جزائري يُدعى محمد دياب. دخل هذا الشرطي إلى صفوف قوات الدرك أيام الاحتلال الألماني، ثم عمل كشرطي طوال الحرب الجزائرية، وكان قد صرخ في وجه ضحيّته: “نعم، سأقتلك يا ابن السلالة القذرة، سأقتلك!”. شجبت حينئذ حركة العمال العرب وجود “شعوب مستعمَرة في فرنسا وأوروبا، وهم العمّال المهاجرون”. وفي يونيو/حزيران 1973، عثر رجال الدرك في مدينة فران -وكانوا يبحثون عن صبي جزائري يبلغ من العمر 14 عامًا- على شقيقته مليكة يزيد التي كانت تبلغ من العمر 8 سنوات. استفردها أحد رجال الدرك في غرفة لإجراء “استجواب” والحصول على “معلومات” عن شقيقها، فخرجت من هناك وهي في غيبوبة ثم ماتت. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1974، أثناء محاكمة 12 شرطيًا بتهمة نهب منزل جزائري في باريس قبل عامين، تبيّن أنهم هدّدوه قائلين: “حرب الجزائر2 لم تنته. سنذهب إلى غابة فريار وسنطلق النار عليك هناك”.

وفي سنة 2005، خلال عمليّة “تأمين” أحد الأحياء، حشد عميد لواء قواته وصرخ في اتجاههم: “لقد خسرنا الحرب في الجزائر. قبل أربعين عامًا، أسقطنا سراويلنا. لكنّا لن نخفضها مرة أخرى اليوم. لا سجين اليوم، لا شيء غير الهراوة!”. تعرّض تركيّان للضرب في ذلك اليوم. وفي أبريل/نيسان 2020 ، قال شرطي ممازحاً زملاءه وهو يتحدّث عن مصري غرق في نهر السين بعد تدخلّهم: “إنه لا يعرف السباحة، عربيّ3 مثله لا يسبح”.

من المظاهر الأخرى لهذا النظام الأمني الاستعماري الداخلي، جمع الإمبريالية الفرنسية داخل أراضي البلد بين ممارسات التمييز الاجتماعي والعنصري الموروث من الفترة الاستعمارية. هذه الفوارق أساسية في مجالات مثل العمل والإسكان والمدرسة والصحة والإعلام والإدارات، وكذلك الشرطة والحدود والسجون. تكمن “استعمارية السلطة” -على حد تعبير عالم الاجتماع البيروفي أنيبال كيخانو- بشكل خاص في إعادة إنتاج هذا الفصل العنصري الاجتماعي.

مازلنا نلاحظ هذه الظاهرة من خلال قمع الثورات الاجتماعية التي اندلعت بعد جرائم الشرطة. في العديد من المدن الفرنسية منذ 1998 وفي غيرها خلال فترة الحجر الصحّي سنة 2020، تم تطبيق نفس الخطة: تطويق منطقة شعبية والسيطرة عليها من خلال إحاطتها بوحدات ثابتة، ثم إرسال وحدات خاصة بالداخل للقبض على “المشتبه بهم”. هذا الربط بين الخنق الجماعي ومطاردة الأشخاص يعيد إنتاج منطق مكافحة التمرد والاستعمار، لا سيما ذلك الذي ساد خلال “معركة الجزائر”. الفكرة هنا هي شنّ نوع من أنواع الحروب البوليسية ضد مجموعة من السكان غير مرغوب فيها، بحجة أنها تشكّل بيئة لانتشار خطر داخلي يهدّد المجتمع. شكّل هذا المخيال “مقياس بوي ترونغ للعنف الحضري”، الذي ادعى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنه قادر على كشف تشكّل “عصابات حضرية” من خلال الانحرافات، على غرار عمليات مقاومة التمرد في الفترة الاستعمارية في الخمسينيات. كما نجد أثراً لنفس هذا المخيال في دعوة إحدى نقابات الشرطة الفرنسية لإقامة “حواجز” في الأحياء الشعبية “على غرار الفصل الذي تطبّقه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية” في مايو/أيار 2021.

استخدام المعدات العسكرية

يحلّل الباحث البريطاني مارك نيوكليوس “الأمن” المعاصر باعتباره عولمة لمصطلح “التهدئة” الاستعمارية. ويلاحظ “توحيدا لقوة الحرب وقوة الشرطة من أجل بناء نظام ليبرالي”. في فرنسا، خلال إعادة الهيكلة النيوليبرالية، شهدنا بالفعل تهجينًا للمعدات والأسلحة بين الجيش والشرطة، وهو إرث من الماضي الاستعماري. هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للغازات السامة والقنابل المشوّهة، والتي تم تصنيع استخدامها ضد المدنيين خلال حرب تحرير الجزائر، قبل أن تنتقل الممارسة إلى الأراضي الفرنسية، لا سيما خلال أحداث مايو/أيار 1968. وبعد تعميم استخدامها في الأحياء الشعبية، بات استعمالها اليوم ركيزة من ركائز إدارة الشرطة للحركات الاجتماعية. نفس الأمر ينطبق على استخدام المروحيات ضد الثورات الحضرية، وهي ممارسة بدأت خلال معركة الجزائر.

لا تزال إدارة النضالات الاجتماعية بمقاربة عسكرية أمنية قائمة في الأراضي المستعمَرة التي تسمى بأراضي “ما وراء البحار”، ولا سيما أثناء أزمة كوفيد-19 في جزر الأنتيل، وكذلك أثناء الاستفتاء على الاستقلال في كاناكي4 في عام 2021. كما تشكّل العمليات الاستعمارية الجديدة مثل “برخان” في منطقة الساحل، تجارب مهمة بالنسبة لرجال الدرك الذين يتدخلون أيضًا بانتظام على الأراضي الفرنسية، وكذلك بالنسبة للجنود الذين يشاركون في عمليات التأهب الأمني في إطار مكافحة الإرهاب.

يتجلّى هذا الاستعمار الأمني مع تضاعف القوانين المناهضة للأجانب والمعادية للإسلام منذ نهاية الثمانينيات، ويتسع من خلال صعود عقيدة مناهضة الإرهاب التي أصبحت شكلاً من أشكال الحكم. وكما أشار الفيلسوف كارل شميت، فقد شكّلت حرب تحرير الجزائر تجربة تأسيسية للجمهورية الفرنسية الخامسة من خلال استهداف الثوار الجزائريين كـ“إرهابيين”، ووضع أجهزة استثنائية مثل “حالة الطوارئ” في قلب نظامها القانوني. ومن خلال إعلان حالة الطوارئ في عام 2015 ثم تطبيعها على المستوى القانوني، باتت أنظمة مراقبة الشرطة والمطاردة والقبض موجّهة ضد رجال ونساء مسلمين ومسلمات، ما أعاد تأسيس نظام استثنائي مميز للنظام الاستعماري بطريقة قانونية. ركّز هذا النظام الاستثنائي بطريقة مهووسة على شخصية العدو الداخلي العربي المسلم، واستمرّ في ظل عهدة إيمانويل ماكرون الأولى من خلال مضاعفة الإجراءات الخاصة وحظر الهياكل الدينية والثقافية والجمعياتية المسلمة.

1خلال حرب الاستقلال الإسبانية (1808-1814) ضد جيوش نابوليون الأول.

2هكذا يُشار في فرنسا إلى حرب التحرير الجزائرية.

3بالفرنسية، يستعمل الشرطي لفظ”بيكو“، وهي شتيمة للحديث عن رجل عربي.

4هو الاسم الذي يطلقه أنصار الاستقلال على كاليدونيا الجديدة.