لماذا تتغيّب الجزائر عن حركة التضامن الدولي مع فلسطين؟

“نحن مع فلسطين، ظالمة أو مظلومة”. لا يزال غالبية الجزائريين يعتبرون هذا الشعار الذي أطلقه الرئيس الراحل هواري بومدين ممثّلا لهم. لكنهم باتوا اليوم بلا صوت تحت طائلة نظام متوجّس فقد إشعاعه على الساحة الدولية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية يلتقيان بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، في الخامس من يوليو/تموز 2022، بالجزائر العاصمة.
Thaer Ghanaim/PPO/AFP

تخضع الجزائر، المدينة التي تم فيها الإعلان عن دولة فلسطين في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، و“مكة الثوار”، وفق مقولة أميلكار كابرال التي تُستحضر بانتظام لا يخلو من حنين، إلى صمت قسري منذ بداية الحرب الوحشية على غزة والضفة الغربية. في “الجزائر الجديدة”، وفق شعار النظام الذي يُفترض أن يميزه عن حقبة بوتفليقة، قامت السلطات بإعادة تطبيق المنع المطلق للتظاهر الذي تم إقراره في 2001 بمجرد بيان من حكومة “الجزائر القديمة” المفترضة، بعد مظاهرة في العاصمة تحولت إلى “أعمال شغب”.

الطابع غير العنيف لمظاهرات الحراك التي بدأت في 19 فبراير/شباط 2019 وأدت إلى استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، هزّ النظام. وقد رأى في توقيف المظاهرات في مارس/آذار 2020 بسبب جائحة كورونا فرصة ليطلق عملية قمع شاملة. ولم تتردد السلطات الجزائرية في توظيف الجهاز القضائي بطريقة فجّة لخنق كل الحريات، ومنها الحق في التظاهر. وقد صرّح زياد عبد التواب، نائب رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان: “قمعت السلطات الجزائرية الفضاء المدني بشدة لدرجة مصادرة الحريات المحدودة المكتسبة منذ التسعينيات”.

لا مجال للتظاهر

في يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينما كانت الحرب على غزة تتحوّل إلى مذبحة كبرى، تم قمع محاولات التظاهر لدعم الفلسطينيين بشدة، حيث تتذرّع السلطة بأن دعمها للقضية الفلسطينية يُبطل جدوى التظاهر. وكان الإحباط والغضب ملموساً على شبكات التواصل الاجتماعي حيث نوّه البعض إلى أن المغرب شهد مظاهرات ضخمة، على الرغم من تطبيعه مع إسرائيل.

عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم (القريبة من الإخوان المسلمين) والذي تم اعتقاله من قبل قوى الأمن بعد دعوته إلى التظاهر، أدان منع الجزائريين من التعبير عن تضامنهم مع غزة الذي يناقض “القيم الجزائرية”. ودعا السلطة إلى تنظيم المظاهرات بنفسها قائلاً: “اخرجوا وسنكون خلفكم”، مؤكّداً أنه لا يبحث عن الريادة على “ظهر القضية الفلسطينية النبيلة”. سُمع النداء، ونُظّمت في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مظاهرات في كامل أنحاء البلاد تم تأطيرها عن قرب، ولكنها جلبت الكثير من المواطنين الذين كانوا يريدون قبل كل شيء التعبير عن تضامنهم مع فلسطين. ولم تكن هناك مظاهرات أخرى بعدها.

“عاصمة هادئة مستسلمة”

في يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول، نشر مقري تغريدة مريرة على منصة X (تويتر سابقاً) تقول:

الشعوب الآن تتظاهر في الشوارع في مختلف مدن العالم في هذه الليلة العصيبة التي يباد فيها أهل غزة ويضحي فيها الأبطال بأنفسهم من أجل وطنهم ومن أجل الأقصى ومن أجل الأمة كلها، وها هي عاصمتنا هادئة، مستسلمة، لقد استطاع النظام السياسي أن يدجن الجميع، فهنيئا لهم!

مقري أبعد من أن يكون معارضاً راديكاليًّا - وهو أيضاً أمين عام منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة1 ومرشح محتمل للرئاسيات الجزائرية في ديسمبر/كانون الأول 2024. وقد اكتشف في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 من شرطة الحدود بمطار هواري بومدين (الجزائر العاصمة) أنه موضع قرار بالمنع من مغادرة التراب الوطني، وهو السلاح الجديد الذي يستعمله النظام - غالباً خارج نطاق القانون - لمنع المعارضين من مغادرة البلاد.

نسب مقري في مدونته هذا “الاعتداء الرسمي” إلى دعمه للقضية الفلسطينية. ليس ذلك هو السبب الوحيد دون شك، لكن الموضوع الفلسطيني صار محرجاً بالنسبة إلى النظام. فالجزائر، مبدئيّاً لا تساوم، وهي تعتبر حماس حركة فلسطينية للمقاومة الوطنية الشرعية ضد الاحتلال، كما ترفض أي تطبيع مع إسرائيل. لكن على المستوى العملي، وبغض النظر عن المحاولات الفاشلة للتوحيد بين فتح وحماس والدعم المالي المنتظم للسلطة الفلسطينية، فإن دعم الجزائر يبقى قولاً بلا فعل.

هالة مفقودة

على شبكات التواصل الاجتماعي التي صارت المجال الوحيد للتعبير الحر نسبيًّا، لم يتفاجأ الكثير من الجزائريين من كون جنوب إفريقيا - وليس الجزائر - هي من ترفع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. صحيح أن الكفاءات للقيام بذلك متوفرة، لكن “بلد المليون ونصف شهيد” فقدت من هالتها ومن تأثيرها السياسي على المستوى الدولي، حيث لم تعد “مكّة الثوار”2 من أهم مراجع للعالم الثالث.

الأمر واضح بالنسبة إلى الكثير من الجزائريين: إذا كانت إفريقيا الجنوبية “تجرأت” على رفع القضية الفلسطينية أمام محكمة العدل الدولية، فذلك يعود أساساً إلى كونها بلداً ديمقراطيًّا لا شك فيه، قادر على العمل بما يتوافق مع تاريخه دون الاكتراث بالغضب الأمريكي أو الغربي.

على غرار الأنظمة المسماة بالـ“تقدمية” في العالم العربي والتي تجاوزتها الأنظمة الملكية داخل الجامعة العربية، فشلت الجزائر في تجاوز النظام التسلطي الذي تم إرساؤه عند الاستقلال. وأصبحت الفجوة بين الطموحات الكبيرة للثورة الجزائرية والواقع المرير لنظام تسلطي، جلية مع انتفاضة الشباب في أكتوبر/تشرين الأول 1988، وزادت اتساعا مع الحرب الأهلية خلال التسعينيات. وكانت تلك المرحلة مرحلة انزواء، اقتصر فيها العمل السياسي بالخارج على محاولة إنقاذ صورة النظام المتدهورة، في حين صارت مسألة الصحراء الغربية المحور المركزي لدبلوماسية الجزائر، تجاوزت أولويتها القضية الفلسطينية.

تم اختيار عبد العزيز بوتفليقة من طرف السلطة العسكرية سنة 1999 بهدف تبييض الصورة الخارجية للجزائر على الخصوص. سافر الرجل كثيرا وتحدث كثيرا، لكن الأثر تراجع بسرعة. ولم يعد يُسمع للجزائر صوت ابتداء من 2012، وعلى رأسها رجل مريض غير قادر على الكلام أُبقيَ عليه في السلطة دون أي منطق.. فترة الإحباط الكبيرة تلك زادت في غياب الجزائر على المستوى الدولي. عادت الجزائر إلى الواجهة عام 2019 مع انطلاق الحراك، الذي تميز بسلميّته، خلافاً عن تقليد الاحتجاج العنيف الذي عرفته البلاد. غير أن فرصة إحداث تغيير حقيقي التي وفرها هذا الحراك تم رفضها من طرف النخب الحاكمة.

على الرغم من أن وسائل الإعلام المدجنة تماماً تروّج الآن لعودة “الجزائر الكبرى” إلى الساحة الدولية، فإن الإخفاقات الدبلوماسية ما فتئت تتراكم. حيث تم رفض طلب الانخراط في مجموعة “بريكس” على الرغم من جولة طويلة للرئيس عبد المجيد تبون إلى موسكو وبكين، كما فشلت عملية ليّ الأذرع التي دامت 19 شهراً مع مدريد بعد تغير موقف بيدرو سانشيز لصالح المغرب في مسألة الصحراء الغربية، وصارت العلاقة في غاية الصعوبة مع الجيران في منطقة الساحل الأفريقي مالي والنيجر.

خطاب موجّه للاستهلاك الداخلي

يتأرجح النظام الجزائري على غير هدى بين الروس والصينيين والأمريكيين. فبالموازاة مع خطاب قومي موجّه للاستهلاك الداخلي، هناك حرص على عدم إزعاج الأمريكيين، خاصة وأن اللوبي الإسرائيلي المؤيد للمغرب قادر على إحداث أضرار جدية في واشنطن. وقد تفاجأ كثير من الجزائريين بالجولات التي تقوم بها في مختلف جهات الجزائر السفيرة الأمريكية - والتي تروّج لها كثيراً على الشبكات الاجتماعية -، في وقت تتعرّض فيه غزة إلى حرب إبادة بدعم من الولايات المتحدة.

وقد أصبح عدم خلق مشاكل مع الولايات المتحدة ضروريا، خاصة وأن “الحليف” الروسي المفترض لم يجنّب الجزائر نكسة رفض طلب انخراطها في مجموعة بريكس. ومما زاد من وطأة الفشل أن هذا الانخراط - الذي صُوّر على أنه محسوم - تم تقديمه من طرف وسائل إعلام النظام على أنه “تأكيد لعودة الجزائر إلى الساحة الدولية”. كما أن هذا الحليف الروسي يحتفظ بعلاقات جيدة مع المغرب، خاصة في المجال التجاري، ويقدم دعما ملموسا، عبر مجموعة فاغنر، للمجلس العسكري في مالي الذي تدهورت علاقته بشكل كبير مع الجزائر3.

أشار الباحث في علم الجغرافيا علي بن سعد في مقال له على مدونته على موقع “ميديابارت” (Mediapart) إلى دور الإمارات في المصاعب التي تعرفها الجزائر مع جيرانها في منطقة الساحل الإفريقي. وهو يرى أن الإمارات تغذي “جبهة عسكرية جديدة” هناك، حيث التأثير الجزائري في “تراجع واضح”، وذلك بهدف “فتح الطريق إلى إعادة تشكيل التحالفات لصالح المغرب وإسرائيل على الخصوص”. ليس من المفاجئ إذاً أن يكون الموقف باهتاً فيما يخص القضية الفلسطينية. لاحظ المختص في الشأن القانوني خالد ساطور على مدونته أن الجزائر امتنعت في مجلس الأمن بخصوص القرار المقدم في 10 يناير/كانون الثاني 2024 من طرف الولايات المتحدة، من أجل إضفاء شرعية على الهجومات ضد الحوثيين، رغم أن أعمالهم تُعتبر الدعم الوحيد الذي تم تقديمه للفلسطينيين في غزة. وأشار مستهجنا إلى أن مداخلة ممثل الجزائر في الأمم المتحدة

كانت خاوية بشكل ملحوظ، حيث استخدم مواربات “ديبلوماسية” بالكاد تكون مفهومة، للتعبير عن عدم موافقته على التحالف العسكري الذي شكلته الولايات المتحدة مع عشر بلدان أخرى، حيث تجنب بعناية ذكر الوضع في غزة..

كما أن الجزائر اكتفت بالامتناع “في حين أن التصويت بـ”لا“حتى وإن كان لا يمنع تبني القرار، كان من شأنه على الأقل التعبير عن معارضة سياسية ملحوظة”.

كما لاحظ الصحفي نجيب بلحيمر هو أيضا أن

تصويت الجزائر ضد القرار لم يكن ليغير في الأمر شيئا، لكن له في المقابل كلفة سياسية لا يبدو أن السلطات الجزائرية مستعدة أو قادرة على تحملها“. المشكل الحقيقي حسب رأيه هو الفجوة بين خطاب رسمي موجه للداخل الذي يرفع السقف عاليا والواقع.”للمرة الألف: أوقفوا الدعاية التي تضر ولا تنفع واستعيدوا فضيلة أسلافكم الذين كانوا يعملون كثيرا ويتكلمون قليلا.

غداة المرافعات الرائعة للجنوب أفريقيين أمام محكمة العدل الدولية، كتب المؤلّف أمين خان على صفحته في موقع الفيسبوك:

بالأمس كانت الجزائر المكافحة حاسمة في تحرير إفريقيا من الهيمنة الاستعمارية، واليوم جنوب إفريقيا حاسمة في تحرير الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة الأخرى تحت سيطرة الاستعمار أو الاستعمار الجديد.

بكلمة وجيزة: الجزائر هي الماضي، وبريتوريا هي الحاضر.

1مؤسسة فكرية تضم في عضويتها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الماليزي السابق محمد مهاتير.

2عرفت فترة ازدهار الدبلوماسية الجزائرية ذروتها مع خطاب الرئيس هواري بومدين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أبريل/نيسان 1974 والذي دعا فيه إلى “نظام اقتصادي دولي جديد”. وفي 13 سبتمبر/أيلول من نفس العام، دعا عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان وزير الخارجية آنذاك، بصفته رئيسا للجمعية العامة للأمم المتحدة، ياسر عرفات لإلقاء خطابه الشهير الذي قال فيه: “جئتكم وبندقيّة الثّائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي، لا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي..” وتمت تحت رئاسة بوتفليقة لهذه الجمعية تعليق عضوية نظام جنوب أفريقيا العنصري.

3أعلنت مالي، التي شرعت في استرجاع المناطق الشمالية عسكريا، يوم الخميس 25 يناير/كانون الثاني 2024، عن انهاء العمل باتفاق السلام الذي ترعاه الجزائر منذ 2015 واتهمت الجزائر بالتدخل في شؤونها وزعزعة الاستقرار. “أخذت الجزائر علما”بالقرار مع التأكيد على أن الخيار العسكري الذي تنهجه باماكو يحمل “بذور حرب أهلية” في مالي وهو “مصدر تهديد حقيقي للسلام والاستقرار الإقليميين”.